بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم .
إخوة الإيمان والإسلام ، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ،هذه حلقة جديدة من برنامج الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة ، آياته في القرآن الكريم ، وفي كونه العظيم ، وفي أفعاله ، فإذا تتبعت أفعال الله عز وجل رأيت يداً حكيمة عليمة ، رحيمة قديرة ، بيدها كل شيء ، وإذا تتبعت خلقه رأيت الإعجاز والكمال ، معنا اليوم فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ محاضر في كلية التربية بجامعة دمشق ، خطيب ومدرس ديني في جوامع دمشق ، أهلاً وسهلاً بك .
بداية فضيلة الدكتور ، رأينا وقرأنا في كتابكم فضل الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة أنكم تحدثتم الكثير عن آية في سورة الرعد ، ألا وهي قوله تعالى :
(سورة الرعد)
ما هو التفسير لهذه الآية ؟
الأستاذ :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ عبد الحليم ، جزاك الله خيراًَ على هذه الندوات ، هذه الآية لا بد لها من تمهيد ، قلت في الحلقة الأولى : إن العقل البشري أداة معرفة الله عز وجل ، لكن قدراته محدودة ، بمعنى أن العقل إذا جال في الكون جولة يستنبط أنه لا بد لهذا الكون من خالق ، يأتي الوحي ، ويجيب العقل عن هذا السؤال الذي قلت : إنه لا بد له من خالق ، إنه الله ، الله الذي رفع السماوات ، فالحقيقة أنّ كلمة : } اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا {هي في مضمونها إجابة لتساؤل العقل من أن هذا الكون لا بد له من خالق ، فهذه هي الإجابة :
(سورة الملك)
(سورة الرعد)
لا بد من تكامل بين العقل والنقل ، سأوضح هذا بمثل :
إذا دخلت إلى جامعة فرأيت أبنيتها ، وقاعات المحاضرات والمخابر ، وبيوت الطلبة ، والحدائق الغناء والملاعب ، عقلك يستنبط عشرات الحقائق من هذا الذي رأيته ، الآن الملاحظة : لاحظت دقة في الأبنية ، وتناسب الأبنية مع أهداف الجامعة ، وقاعات المحاضرات ، فيها عزل للصوت ، ومدرج ، وسبورات تمسح آلياً ، بيوت الطلبة حول حدائق ، وموقع الجامعة بعيد عن الضوضاء ، والمخابر العملاقة ، تستنبط أن هناك إدارة وجامعة وتخطيطًا وهندسة ، ولكن هل تستطيع أن تستنبط من هو عميد الكلية ؟ من هو رئيس الجامعة من هذه الأبنية ؟ هل لك أن تستنبط نظامها الداخلي ؟ متى ينجح الطالب ؟ ومتى يرسب ؟ هل لك أن تستنبط أسماء الأساتذة ، مستحيل ، فالنظر في أبنية الجامعة ينبئك أن وراء هذه الأبنية مهندسين وعلماء ، لكن من هم ؟ ما أسماؤهم ؟ ما النظام الذي يحكمهم ؟ كيف ينجح الطالب ؟ هذا لا بد من كتيب عن الجامعة ، فالنظر في الكون يكمله الوحي ، التأمل والتفكر في خلق السماوات والأرض يكمله وحي السماء ، فأنت بالعقل إذا جال في الكون تعرف أنه لا بد لهذا الكون من خالق ، يأتي الوحي ويقول لك :
شيء آخر مهم جداً ، الوحي ينقل لك مراد الله منك ! لماذا خلقك ؟ ولماذا جعل الدنيا محدودة ، وجعلها قصيرة ؟ لماذا جعلها ممرًّا للآخرة ؟ فكل هذه التساؤلات يأتيك الجواب عنها في الوحي ، فنحن لا يمكن أن نعتمد على العقل وحده في الإيمان ، تماماً كهذه العين ، فلو أن إنسانًا يملك عينًا في أعلى مستوى من الرؤية ، ما قيمتها من دون ضوء ؟ لا قيمة لها إطلاقاً ، لو جلس إنسان يبصر في غرفة مظلمة ، وإنسان لا يبصر فهما يستويان ، فكما أن هذه العين لا قيمة لها من دون ضوء يتوسط بينها وبين الأشياء ، كذلك هذا العقل لا قيمة له من دون وحي ينير له الطريق ، أقول : العقل من دون وحي :
(سورة المدثر)
العقل وحده لا يكفي فهو محدود ، لا بد للعين من ضوء ، ولا بد للعقل من وحي ، فالله عز وجل يجيب العقل الذي تسائل عن أن هذا الكون يحتاج إلى خالق ، أجابه ، وقال :
بمعنى أنه رفعها بعمد لا ترونها ، وما من تفسير لنظرية التجاذب في الكون إلا هذه الآية ، في الكون قوى تجاذب لا نراها ، لو أنك جئت بورقة ، ووضعت عليها مسمارًا ، وفي أسفل الورقة دون أن نرى المغناطيس حركت هذا المغناطيس فتحرك المسمار ، بين الورقة والمغناطيس قوى تجاذب ، لكنها غير مرئية ، لا تُرى بالعين ، فأنت على وجه الأرض مرتبط بقوى التجاذب ، ما هو وزن الإنسان في الأساس ؟ هو قوة جذبه نحو مركز الأرض ، الوزن كله ، بدليل أن الإنسان فيما بين الأرض والقمر تنعدم الجاذبية ، فيصبح لا وزن له ، رواد الفضاء يستيقظون ، فإذا هم في سقف المركبة ، تنعدم الجاذبية ، فالآية :
من حكمة الله عز وجل أن الأرض تدور حول الشمس ، هذا شيء بديهي ، سرعتها في دورانها حول الشمس ثلاثين كيلو مترًا في الثانية ! نحن من أول هذا اللقاء إلى الآن قطعنا مئات ألوف الكيلو مترات ، وهذا شيء يقيني ، الأرض تدور حول الشمس في مسار إهليلجي بيضوي ، والمسار البيضوي له قطران ، صغير وكبير ، الشكل البيضوي لو أخذنا مركزه ، عندنا نصف قطر طويل ، ونصف قطر قصير ، ليس كالدائري ، كالبيضة تماماً ، فالأرض تدور حول الشمس بمسار إهليلجي ، وهذا المسار له قطر صغير وقطر كبير ، أو نصف قطر صغير ، ونصف قطر كبير ، في أثناء سير الأرض حول الشمس ، وعلى هذا المسار إذا اقتربت من نصف القطر الصغير قَلَّت المسافة بينها وبين الشمس ، وتعلمون أستاذ عبد الحليم ـ جزاكم الله خيراً ـ أن قانون الجاذبية يتناسب مع الكتلة والمسافة ، فإذا قَلَّتْ المسافة ازداد الجذب ، فبديهي أن الأرض حينما تقترب من الشمس في هذا المكان الذي قطره صغير لا بد من أن تنجذب إلى الشمس ، ما الذي حصل ؟ ترفع الأرض من سرعتها ، وكأنها عاقلة ، ترفع هذه السرعة لينشأ من هذه السرعة الزائدة قوة نابذة تكافئ القوة الجاذبة كيف ؟ لو حملت وعاء ماء وملأته ماء ، ودورته ، الماء لا يسقط ، لماذا ؟ لأنك حينما تدير هذا الوعاء ينشأ من هذا الدوران قوة نبذ بعيدة عن المركز ، فالماء لا يسقط ، فالأرض حينما تصل إلى هذه المرحلة الحرجة ، والتي يخشى منها أن تنجذب إلى الشمس ترفع سرعتها ، حيث ينشأ من هذه السرعة الإضافية قوة نبذ استثنائية تكافئ قوة الجذب الاستثنائية ، فتبقى في مسارها ، وهي مادة غير عاقلة .
هل تصدق مركبة في طريق ليس فيها سائق ؟ سيارة من حديد توقفت عند الإشارة الحمراء ، مرّ طفل فأطلقت بوقها ، عند المنعطف انحرفت نحو اليمين ، هل تصدق ذلك ؟ هل تعد المادة عاقلة ؟ هذا شيء مستحيل ، شيء من صخر ، لماذا رفعتْ من سرعتها ؟ ولماذا تابعتْ سيرها ؟ لأن هناك إدراكًا بالجذب القوي ، لأن هناك خالقًا يسيّرها اسمه اللهُ ، لكن الشيء اللطيف لو أنّ هذه الأرض رفعت سرعتها فجأة لانهدم كل ما عليها ، لكن الحكمة البالغة أن التسارع بطيء ، ليبقى كل شيء في مكانه ، تماماً لو وضعت بضع علب في شاحنة ، وأقلعت فجأة تقع العلب ، أو وقفت فجأة تقع العلب ، السبب أن في قانون العطالة الجسم المتحرك يرفض السكون ، والجسم الساكن يرفض الحركة ، لماذا حزام الأمان في السيارة ؟ لأنها إذا توقفت فجأة بسبب حادث فأنت تركب معها ، فأنت يحكمك مبدأ العطالة ، تريد ألا تقف ، فتبقى متحركًا ، فيقع الحادث ، لذلك وجد حزام الأمان لتكون مرتبطًا بالسيارة ، فهذه الأرض حينما تصل إلى هذا المكان الحرج ترفع سرعتها ، فينشأ من رفع هذه السرعة قوة نابذة تكافئ القوة الجاذبة ، فتبقى في مسارها .
الآن الأرض تمشي ، وصلنا إلى القطر الأعظم ، المسافة طالت بينها وبين الشمس ، والجاذبية ضعفت ، يوجد خطر من تفلت الجاذبية للشمس ، الآن خطر آخر ، نوع آخر ، أول خطر هو خطر الانجذاب إلى الشمس ، والأرض إذا ألقيت في الشمس تبخرت في ثانية واحدة ، الخطر الثاني خطر التفلت من جاذبية الشمس ، فإذا سارت الأرض في الفضاء الكوني أصبحت الحرارة مئتين وسبعين تحت الصفر ، ولمات كل ما على الأرض ، برودة لا تحتمل !! خطر الانجذاب إلى الشمس بالاحتراق ، وخطر التفلت من الشمس بالتلف الناتج عن البرودة الكبيرة جداً .
الآن ، الأرض في هذا المكان الثاني تبطئ من سرعتها لينشأ من بطء السرعة ضعف في قوة النبذ يكافئ ضعف الجاذبية ، فتبقى في مسارها .
لا بد لهذا المسار والمسير من قدرة إلهية محكمة بحركة الأرض ، الآن تسارع بطيء والتباطؤ بطيء ، وهذا يعبر عن اسم ( اللطيف ) .
أحياناً يقول لك : سائق أرعن ، يوقف المركبة فجأة ، فيقلب الركاب ، يقلع فجأة فيزعجهم ، السائق اللطيف لا تشعر بشيء مزعج معه .
تركب طائرة ، الطيار يهبط بخط انسيابي ، وهناك طيار ينزل بك بالطائرة ، وكأنك في درج فهذا من اسم ( اللطيف ) .
المذيع :
فضيلة الدكتور ، سنعود للسماء والعمد الذي تحدثنا عنه ، أنها بغير عمد ، هكذا ذكر الله سبحانه وتعالى ، إن كان هناك عمد فهي كما ذكرتم قوة الجاذبية ، ولكن غير مرئية .
الأستاذ :
لو أن الأرض تفلتت من جاذبية الشمس ، وسارت في الفضاء الكوني ، وأردنا أن نرجعها فلا بد من مليون مَليون حبل تربط بها إلى الشمس ! ومن المعلوم أن أمتن حبل في الكون هو الفولاذ المضفور ، ونحن من أجل أن نعيد الأرض إلى مسارها حول الشمس لا بد من أن نربطها بمليون مليون حبل فولاذي ، قطر كل حبل خمسة أمتار ، والمعلوم أن الحبل الفولاذي قطره خمسة أمتار يحمل مليوني طن ، قوى الشد في هذا الحبل تساوي مليوني طن ، نحن الآن سنغرس مليون مليون حبل على سطح الأرض كي نشدها إلى الشمس ، لو زرعنا هذه الحبال لفوجئنا أنه بقي بين كل حبل وحبل مسافة حبل واحد ، نحن أمام غابة من الحبال تعيق الحركة ، والبناء ، والطرق ، وتعيق ضوء الشمس لانتهت الحياة ، لكن حكمة الله أنه رفع السماوات بغير عمد ترونها بقوة تجاذب !!!
معنى ذلك أن الأرض مرتبطة بالشمس ، باثنين مليون ضرب مليون مليون ، هذه قوة جذب الشمس للأرض ، كل هذه القوة من أجل أن تحرف الأرض ثلاثة ميليمترات كل ثانية ، هذا الشكل الإهليلجي الذي هو مسارها حول الشمس ، كل هذه القوة من أجل أن تحرف الأرض ثلاثة ميليمترات كل ثانية ، هذا معنى قوله تعالى :
المذيع :
هذا الحديث يذكرنا بما ذكره بعض العلماء في السابق عن شكل الأرض هذا وأنه على شكل بيضوي هذا وليس مسطحًا ، هذا إعجاز ، فبعد أن تحدثنا عن قوة الجذب بين السماء والأرض ، الآن نتحدث عن السماء ذات الرجع ، وهذه آية مختلفة ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ، أيضاً التفسير هنا نراه بشكل معجز .
الأستاذ :
كان يفهم من هذه الآية أنه إذا صعد بخار الماء إلى السماء رجع مطراً ، هذه المعطيات الأولية ، ثم اكتشفوا أن هذا البث الإذاعي لولا أن هناك طبقة في الجو اسمها الأثير تعيد هذه الموجات إلى الأرض لما كان هناك بث إذاعي في الأرض ، ثم اكتشف أن الحقيقة التي تنتظم الكون كله هي قوله تعالى :
(سورة الطارق)
أي إن كل نجم أو كل كوكب ينطلق في مسار مغلق ، ويعود إلى مكان حركته الأولى المصطلح عليها ، كل كوكب يدور في مسار مغلق يعود إلى مكان انطلاقه الأول ، المسار المفتوح هو الحلزوني ، أما المسار المغلق أن هذا النجم يعود إلى مركز طلاقه الأول تماماً ، بدليل أن ساعة ( بيغ بين ) تضبط على حركة نجم ، وقد تختلف في العام ثانية أو ثانيتين ، والنجم أدق من أي ساعة في الأرض .
أي إن كل كوكب يتحرك ، لو تصورنا أن الكون كواكبه لا تتحرك ، بحسب قانون الجاذبية لا بد من أن يصبح الكون كتلة واحدة ، كل نجم أكبر يجذب الأصغر ، وتنتهي الحياة ، لولا هذه الحركة لما كانت حركة في الكون ، فحركة النجم في مسار مغلق ، أي يعود إلى مكان انطلاقه الأول ، هذه الحقيقة تنتظم الكون كله :
(سورة الطارق)
المذيع :
نسبح الله سبحانه وتعالى بهذه الكلمات ، ونرى هذه الآيات المعجزة التي نزلت في القرآن الكريم منذ ألف وأربعمئة سنة ، يكتشفها الآن العلماء في خلال هذه السنوات ، ومن خلال الميكروسكوبات ، والمركبات الفضائية التي نراها .
الأستاذ :
هذا مصداق قوله تعالى :
(سورة فصلت)
( السين ) للاستقبال ، و( الميم ) للغائب ، الله هو المتكلم ، والمؤمن مخاطَب ، والطرف الآخر هو الغائب ، مصداقاً لهذا الدين العظيم :
المذيع :
سبحان الله ! أيها الإخوة والأخوات ، مع هذا التأمل ، وهذا التفكير في آياته الكريمة ، وفي خلقه خلق السماوات والأرض ، مع فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، نتابع هذه المسيرة المتأملة في خلقه ، وإلى حلقة قادمة بإذن الله تعالى ، نستودعكم الله ، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .