بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً ، وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام ... مع الدرس الثلاثين من دروس سير الصحابيات الجليلات رضوان الله تعالى عنهن أجمعين ، ومع أهل بيت النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ومع أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب ، زوجة الفاروق عمر بن الخطاب .
هي أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب ، أمها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شقيقة الحسن والحسين ، ولدت في حدود سنة ستٍ من الهجرة ، رأت النبي صلى الله عليه وسلم جدها ، ولم ترو عنه شيئاً ، تزوَّجها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وذلك سنة سبع عشرة ، وكان سبب زواج عمر منها قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((كل سببٍ ونسبٍ منقطعٌ يوم القيامة إلا سببي ونسبي)) .
( أخرجه الحاكم وابن سعدٍ وهو حديثٌ صحيح )
أي سبب زواج هذا الخليفة الراشد هذا الحديث ، مع أن فارق السن بينهما كبير ، ألح هذا الخليفة الراشد أن يتزوَّج هذه الفتاة ، التي هي من نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قصة هذا الزواج هي كما يلي : إن عمر بن الخطاب خطب إلى عليٍ ابنته أم كلثوم ، فذكر له صغرها ، فقيل لعمرٍ إن ردَّك فعاوده ـ أي بإلحاح ـ إن ردك فعاوده ، ثم خطبها إلى أبيها علي بن أبي طالب فقال : "إنها صغيرة " ، فقال عمر : " زوِّجْنيها يا أبا الحسن ، فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد " ، هي عندي مكرمةٌ أشد التكريم ، فقال له علي : " أنا أبعثها إليك ، فإن رضيتها فقد زوَّجْتكها " ، فبعثها إليه ببردٍ ، فقال لها : " قولي له : هذا البرد الذي قلت لك " ، فقالت ذلك لعمر ، فقال عمر : " قولي له قد رضيت " ، رضي الله عنه .
فقصة هذا الزواج قصة اكتساب الشرف ، اكتساب السبب ، سبب الاتصال بالله عز وجل لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول : ((كل سببٍ ونسبٍ منقطعٌ يوم القيامة إلا سببي ونسبي)).
( أخرجه الحاكم وابن سعدٍ وهو حديثٌ صحيح )
أيها الإخوة ... جاء عمر ـ طبعاً العلماء قالوا : جلس عمر إلى المهاجرين في الروضة ، وكان يجلس المهاجرون الأولون في روضة مسجد رسول الله ـ فقال : " رفؤني "، العرب كانت تقول للمتزوج : بالرفاء والبنين ، العوام يقولون : بالرفاه ، هي بالرفاء ، والرفاء الوفاق ، بالوفاق الزوجي والبنين ، وأثمن ما في الزواج الوفاق والبنون ، فقال : " رفؤني" ، فقالوا :
" بماذا يا أمير المؤمنين ؟ " ، قال : " تزوجت أم كلثوم بنت علي ، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((كل سببٍ ونسبٍ وصهرٍ ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وصهري)) .
( أخرجه الحاكم وابن سعدٍ وهو حديثٌ صحيح )
... وكان لي به عليه الصلاة والسلام النسب والسبب ، فأردت أن أجمع إليه الصهر ، فرفؤني ، أي عد هذه مغنماً كبيراً ، أنه اتصل نسبه ، أو تزوج بنتَ بنتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو أصبح صهر رسول الله .
قالوا : تزوجها على مهر أربعين ألفاً ، فولدت له زيد بن عمر الأكبر ورقية ، في هذا الخبر كما قال العلماء أحكام عدة ، مِن هذه الأحكام :
أن يصح زواج الكبير بالصغيرة شرعاً ، وأن ذلك حصل بمشهد جمعٍ غفير من كبار المهاجرين ، وعلى مسمع الأنصار أيضاً ، وأنهم قد أقروه على ذلك ، وهذا إجماعٌ منهم على جوازه ، وأنه يندب تعدد الزوجات لزيادة الشرف ـ تعدد الزوجات من هؤلاء الصحابيات الكاملات المتصلات بالنسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وأن يزاد في مهر الصغيرة أضعاف مهر الكبيرة ، وأنه يندب إعلام الأصحاب لذلك ، للدعاء والتبريك ، وأنه يجوز للأب أن يزوِّج ابنته الصغيرة ، وأن سكوت الصغيرة كسكوت البالغة في اعتبار الرضا به ، وأنه يجوز إبرام عقد الزواج بالصورة التي تم فيها ، بشرط إسماع الشهود على ذلك ، كل هذه الأحكام مستنبطة من هذه الواقعة .
أيها الإخوة ... حظيت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب ، عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب منزلةً عاليةً مرموقة ، فلو كان هناك تناقضٌ كبير كما يتوهم الآخرون بين سيدنا علي وسيدنا عمر ، لما أمكن أن يتم هذا الزواج ، هذا استنباطٌ مهمٌ جداً ؛ بل إن سيدنا علياً كرم الله وجهه سمى أولاده بأسماء الصحابة الكرام ؛ أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، فسيدنا علي سمى أولاده بأسماء الصحابة الكبار ، وهؤلاء الصحابة الكبار تشرفوا بالزواج من بنات سيدنا علي ، فبينهما من الود ، والاحترام ، والحب ، والولاء ، والبيعة مالا ينكر .
فقد حظيت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب منزلةً عاليةً مرموقة ، فكان ينظر إليها بعين الإجلال والإكرام ، فعاشت عنده حياةً طيبةً مباركة ، فقد كان يسعى لإسعادها بما يحقق طموح فتوَّتها ، وتفتُّح شبابها ، وهو البصير بقضايا النساء ، فكان رضي الله عنه يرقب نفسه وما يراه واجباً للمرأة على زوجها ، ولقد أُثر عنه ، وهو خليفة المسلمين بحكمته البالغة دقة معالجته لقضايا الفتيات المتزوجات ، اللواتي يشتكين من أمورٍ تخصُّ حياتهن الزوجية ، فمن ذلك أنه كان يقول لأولياء أمور النساء : "لا تنكحوا المرأة الرجل الذميم القبيح ، فإنهن يحببن لأنفسهم ما تحبون لأنفسكم "،. فكما أن الشاب يتمنى فتاةً تملأ عينه ، كذلك الفتاة تتمنى زوجاً يملأ عينيها ، لذلك لا يُبرم عقد الزواج إلا بموافقة الزوجة ، فإن قالت : لا ، فالعقد باطل ، وكلكم يرى في عقود القران ، كيف أن موظف المحكمة يذهب ، ويستمع بأذنه إلى إقرار الفتاة ، وهذا حقٌ من حقوق المرأة .
وكان بعض الصحابة يقول : إني لأتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين امرأتي لي ، وهذا من حقها ، فكلام سيدنا عمر : "لا تنكحوا المرأة الرجل الذميم القبيح ، فإنهن يحببن لأنفسهم ما تحبون لأنفسكم" .
أي يا أيها الآباء لا تتجاهلوا رأي بناتكم في هذا الخاطب ، الذي أنتم تريدون أن تجبروا فتياتكم عليه ، فسيدنا عمر لحكمةٍ بالغة كان يخشى على المرأة حينما تكره زوجها كراهيةً تجعلها لا تطيق قربه ، أن تدفعها هذه الكراهية ، وعدم إمكان الحصول على الطلاق ، إلى الشيء الذي لا يرضي الله عز وجل ، والآية الكريمة والتي فيها بعض الحيرة :
( سورة النور : من آية " 33 " )
ما مؤمنٍ على وجه الأرض يكره ابنته على الزنا ، إلا أن الأب الذي يُعضل ابنته ، ويضع العراقيل تلو العراقيل أمام زواجها ، أو يضع شروطاً تعجيزية لزواجها ، مثل هذا الأب قد يفاجأ إلى أن ابنته مالت إلى عدم طاعته ، أو إلى الانحراف - لا سمح الله - فكأنه دفعها إلى هذا من دون أن يريد ومن دون أن يشعر .
يروى أنه رضي الله عنه كان يطوف بالبيت ، فسمع امرأةً تنشد في الطواف :
فمنهن من تسقى بعذبٍ مبرَّدٍ.. ..لقاح فتلكم عند ذلك قرتي
ومنهن من تسقى بأخضر آجنٍ أجازٍ ولولا خشية الله زنت
* * *
فتفرَّس عمر ما تشكوه هذه المرأة ، فبعث إلى زوجها فاستنكهه ، فإذا هو أبخر الفم ـ أي عرف السبب ـ فإنسان دميم له رائحة كريهة ، هذا قد يؤذي زوجته ، وقد يدفعها إلى أن تفكر بغيره ، فلابد أن يأخذ الإنسان السنة النبوية ، لأن الله عز وجل يقول :
( سورة البقرة : من آية " 228 " )
فكما أنك من حقك أن تطلب من زوجتك شيئاً ، هي أيضاً من حقها أن تطلب منك شيئاً .
ومن أشهر ما يؤثر عن عمر رضي الله عنه في تفهُّمه قضايا المرأة، وبالأخص ما يتعلَّق برغباتها ، التي فطر الله تعالى النساء عليها ، ما روي من أنه كان يطوف ليلةً بالمدينة متفقداً رعيته ، فسمع امرأةً تقول :
فوالله لولا الله لا شيء غيره لزعزع من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يكُفُّني .. ...وإكرام بعلي أن تنال مراكبه
* * *
يبدو أن زوجها ابتعد عنها كثيراً ، وهي في أشد الحاجة إليه ، فلما كان من الغد ، استدعاها عمر وسألها : " أين زوجكِ ؟ " ، قالت : " بعثت به إلى العراق " . لقد سألها من غير أن يشعرها بما سمع منها ، وقد أجابته هي بحياءٍ وتصبُّر ، ولم تفصح عما في نفسها من شوقٍ عميق لزوجها الغائب عنها ، عندئذٍ استدعى عمر نساءً مع ابنته حفصة ، فسألهن عن المرأة المتزوجة : " كم مقدار ما تصبر عن زوجها " ، فقلن : " شهرين ، ويقل صبرها في ثلاثة أشهر ، وينفد صبرها في أربعة أشهر " .
أما بلاد إسلامية ، طويلة عريضة لا تقبل الموظف عندها إلا بلا زوجته ، سنة ، أحد عشر شهراً ، تحرمه من زوجته ، ويحرمونها من زوجها ، أكثر دول الخليج هكذا ، لا تقبل الموظف مع زوجته ، هذا خلاف الفطرة ، خلاف حاجة الإنسان إلى زوجة ، خلاف حاجة الزوجة إلى زوج ، خلاف تشتيت الأسرة ، فسيدنا عمر بعد ذلك أعطى أمراً ألا يجمَّد الجندي في البعوث أكثر من أربعة أشهر ، وبعدها يعود إلى زوجته .
أحياناً الإنسان يجري موازنة ، ويـتألَّم ، في بلاد الكفار الإنسان مسموحٌ له أن يأتي بأمه ، وأبيه ، وإخوته جميعاً ، جمعاً للأسرة ، يأتي بأبيه ، وأمه ، وإخوته جميعاً ، ذكوراً و، إناثاً للمِّ شمل الأسرة ، ونحن المسلمين أحياناً نرفض أن نعيِّن موظفاً مع زوجته ، وهذه مشكلة كبيرة ، من أجل ذلك كان عمر رضي الله عنه يجنِّد في جيوش المسلمين غير المتزوجين ، ويدع المتزوجين مع زوجاتهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً .
والقصة التي تعرفونها جميعاً ، يوم كان عمر يتفقد رعيته ، وكان معه عبد الرحمن بن عوف ، فرأيا قافلةً مقيمةً في ظاهر المدينة ، فقال : " تعال نحرسها " ، فبكى طفلٌ ، فقال عمر لأمه : " أرضعيه " ، فبكى ثانيةً فقال: " أرضعيه " ، فبكى ثالثة فقال : " يا أمة السوء أرضعيه " ، قالت : "وما شأنك بنا إنني أفطمه" ، قال : " ولماذا ؟ " ، قالت : " لأن عمر لا يعطينا العطاء إلا بعد الفطام " ، فضرب عمر جبهته بيده وقال : " ويحك يا ابن الخطاب كم قتلت من أطفال المسلمين "، وعد نفسه قاتلاً ، لأنه حمل بعض النساء على أن يفطن أولادهن قبل الوقت المناسب ، كي يكسبن هذا التعويض العائلي عن أولادهن .
وكان رضي الله عنه في هذا المقام كما قال الإمام السرخسي : كان حسن التدبير ، والنظر للمسلمين ، وكل إنسان الله عز وجل ولاَّه ، أحياناً مدير مستشفى ، أحياناً مدير دائرة ، مديرة مدرسة ، حينما يرحم المسلمين يرحمه الله ، وحينما يشفق عليهم يرحمه الله ، وحينما يعدل بينهم يرحمه الله عز وجل ، والإنسان حينما يولى على بضعة رجال ، له حسابٌ عند الله خاص .
من حسن نظره رضي الله عنه ، أن ذا الزوجة ، أي ذا الحليلة قلبه معلقٌ بأهله ، فلا يطيل المقام في الثغر ، والأعزب لا يكون قلبه وراءه فيتمكن من إطالة المقام ، وفي هذا اعتبارٌ للغرائز عند الزوجة وزوجها .
فهذا الموضوع تطرَّقنا إليه ، وهو مهمٌ جداً ، فأي جمعٍ لشمل الأسرة عملٌ يرضي الله ، وأي تفرقةٍ ينهما عملٌ لا يرضي الله عز وجل ، وله آثارٌ بغيضةٌ وخطيرة .
وكان رضي الله عنه يقول : " والله ما استفاد رجلٌ فائدة بعد إسلامٍ خيراً من امرأةٍ حسناء حسنة الخلق ودودٌ ولود ـ أي أن أثمن شيء بعد الإيمان بالله زوجة صالحة ـ والله ما استفاد رجلٌ فائدةً بعد الشرك بالله شراً من مُرَيَّةٍ ـ تصغير امرأة ـ سيئة الخُلُق ، حديدة اللسان ، والله إن منهن لغلاماً يفدى منه وغلاماً ما يجدي " ، أي أن أفضل شيء للمرء بعد الإيمان زوجة صالحة ، وأسوأ شيء للإنسان بعد الشرك امرأةٌ سيئة الخلق حديدة اللسان .
يروى أن ذات مرة جاءت امرأة تشكو سيدنا عمر ، يبدو أنه كان منشغلاً عنها ، قالت له : " يا أمير المؤمنين إن زوجي صوامٌ قوام " ، ما انتبه فقال : " بارك الله لكِ بزوجك " ، صوام في النهار ، قوَّام في الليل ، في النهار صائم ، وفي الليل قائم ، عبادة مستمرة فقال لها : " بارك الله لكِ بزوجك" ، عنده أحد الصحابة قال له : " يا أمير المؤمنين إنها تشكو زوجها " ، لا تمدحه ، قال : " هكذا فهمت ، احكم بينهما " ، هذا الصحابي نظر لو أن الرجل عنده أربع نساء كما هو مسموحٌ له ، نصيب الواحدة من نسائه يوم كل أربعة أيام ، فأمره أن يتفرَّغ له يوماً كل أربعة أيام ، أعجب بهذا الحكم ، عيَّنه قاضي البصرة ، قالت : " إن زوجي صوام قوام " ، قال لها : " بارك الله لكِ بزوجك " ، قال : " يا أمير المؤمنين إنها تشكو زوجها " ، لا تمدحه ، لكن النساء كن عفيفات صاحبات حياء ، بليغات ، فصيحات ، وتعلَّمن من أسلوب القرآن الكريم هذا ..
( سورة المعارج )
يدخل تحت هذه الآية : كل أنواع الانحراف ..
( سورة النساء : من آية " 43 " )
لامستم النساء يفهمها كلٌ بحسب خبرته .
( سورة الأعراف : من آية " 189 " )
كلمة : تغشاها ، كلمة : أو لامتسم النساء .
( سورة المعارج )
أما هذا الذي يسمي الأشياء بأسمائها ، والأفعال بصورها القبيحة ، ويقول : لا حياء في الدين ، هذا إنسان لم يفهم حقيقة الدين ، الدين كله حياء ، ومرةً قلت لكم : إن النبي عليه الصلاة والسلام رأى فتاةً ترتدي ثياباً شفافة فقال
(يا بنيتي إن هذه الثياب تصف حجم عظامكِ)) .
اختار كلمة تبعد السامع عن الإثارة : ((يا بنيتي إن هذه الثياب تصف حجم عظامكِ)) ، فالإنسان يفهم .
ولهذا كانت زوجاته عامةً ، وأم كلثوم خاصةً ، يعشن عنده كأحسن عيشة ، وأرغدها ، وأسعدها ، وذلك على الرغم مما عهد عنه في رغبته في العيش الخَشن ، إن هذا كان لنفسه ، أما بالنسبة لزوجاته فكانت معاملته لهن تختلف عما يعامل به نفسه ، فقد كان عمر رضي الله عنه رقيق القلب ، سهل المَعشر ، وإن بدرت منه هفوةٌ بادر إلى الندم والاعتذار .
كان رحيمًا ، كان أرحم الصحابة ، حتى لما عوتب سيدنا الصديق بقولهم : " ولَّيتَ علينا هذا الشديد "، قال : " أتخوفونني بالله ! أقول : يا رب وليت عليهم أرحمهم ، هذا علمي به ، فإن بدَّل وغير فلا علم لي بالغيب " ، يرى سيدنا الصديق أن سيدنا عمر هو أرحم الخلق بالخلق ، طبعاً بعد رسول الله .
ثم إن هذه الزوجة الطيبة الطاهرة أم كلثوم ، مما كانت على صغر سنها ، أكثر تجاوباً مع واجبات زوجها ، الذي كان شديد الحرص على راحة الرعية ، يتفقَّدهم بنفسه ، ويهتم بشؤونهم أكثر باهتمامه بشؤون بيته ، قال : " كانت لا تنسى ليلةً طاف فيها يتفقَّد رعيته ، فإذا هو بامرأة في جوف دارها ، وحولها صبيان يبكون ، وإذا قدر على النار ملأته ماءً ، فدنى عمر من الباب فقال : يا أم ما هذا ؟ لمَ يبك أولادكِ ؟ قالت : بكاؤهم من الجوع ، قال : فما هذه القدر التي عليها النار ؟ قالت : قد جعلت فيها ماءً أعللهم بها حتى يناموا ، أوهمهم أن فيها شيئاً من دقيق وسمن ، فجلس عمر يبكي ، ثم جاء إلى دار الصدقة ، فأخذ حملاً أو وعاءً ، وجعل فيه شيئاً من دقيقٍ ، وسمنٍ ، وشحمٍ ، وتمرٍ ، وثيابٍ ، ودراهم ، ثم قال : يا أسلم أحمل هذا علي ، فقلت : يا أمير المؤمنين أنا أحمله عنك ، فقال : لا أنا أحمله ، لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة " .
ألم يقل مرةً : " والله لو تعثرت بغلةٌ في العراق لحاسبني الله عنها ، لمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر ؟ " ...
... فحمله حتى أتى به منزل المرأة ، وأخذ القدر فجعل فيها شيئاً من دقيق وشيئاً من شحمٍ وتمر ، وجعل يحركه ، وينفخ تحت القدر حتى طبخ لهم ، ثم جعل يغرف بيده ، ويطعم الصغار حتى شبعوا ، ثم ربض بجانبهم ، فلم يزل حتى لعبوا وضحكوا ، ثم قال : يا أسلم أتدري لمَ ربطت بحذائهم ـ أي جلست إلى جانبهم ؟ ـ قلت : لا يا أمير المؤمنين ، فكرهت أن أذهب ، وأدعهم حتى أراهم يضحكون ، فلما ضحكوا طابت نفسي .
هذا الذي يرحم الصغار إنسانٌ عظيم ، هؤلاء الصغار أحباب الله ، هؤلاء الصغار رجال المستقبل ، هؤلاء الصغار إذا ربّوا على الرحمة رحموا الآخرين ، وشيء ثابت الآن أن الإنسان إذا ربِّي في بيت صحيح ، في بيت سليم ، في بيت فيه رحمة ، فيه قيَم ، حينما يكبر في الأعم الأغلب يرحم الناس جميعاً ، لا يؤذيهم لا يظلمهم .
وقال أنس بن مالك : بينما عمر يعسُّ المدينة ، أي يتحسس أخبار الرعية ، إذ مر برحبةٍ من رحابها ، فإذا هو بيتٌ من شعرٍ لم يكن بالأمس، فدنا منه فسمع أنين امرأة ورأى رجلاً قاعداً ، فدنا منه فسلم عليه ثم قال : " من الرجل ؟ " فقال : رجلٌ من أهل البادية ، جئت إلى أمير المؤمنين أُصيب من فضله ، فقال : " ما هذا الصوت الذي أسمعه في البيت ؟ " قال : "انطلق يرحمك الله لحاجتك " ، فقال : " عليَّ ذلك ، ما هو ؟ " قال الرجل : " امرأةٌ تمخِّض ـ أي في طور الطلق ـ " ، قال عمر : " هل عندها أحد ؟ " قال : لا .
قال أنس : فانطلق عمر حتى أتى منزله فقال لأم كلثوم ـ صاحبة الدرس هذا ، بنت علي رضي الله عنها ـ : هل لكِ من أجرٍ ساقه الله إليكِ ؟ قالت : وما هو ؟ قال : امرأةٌ عربية تمخِّض ليس عندها أحد ، قالت أم كلثوم : نعم إن شئت ، قال : فخذي معكِ ما يصلح المرأة لولادتها ، وجيئيني ببرمةٍ ، وشحمٍ ، وحبوب ، قال : فجاءت به فقال لها : انطلقي ، وحمل البرمة ، وهي القدر الذي يطبخ فيها ، ومشت خلفه حتى انتهى إلى البيت ، فقال لها : ادخلي إلى المرأة ، وجاء حتى قعد إلى الرجل فقال له : أوقد لي ناراً ، ففعل ، فأوقد تحت البرمة حتى أنضجها ، وولدت المرأة فقالت امرأته : يا أمير المؤمنين بشِّر صاحبك بغلام .
فلما سمع الرجل يا أمير المؤمنين كأنه هابه ، فجعل يتنحَّى عنه فقال له : " مكانك كما أنت " ، فحمل البرمة فوضعها على الباب ، ثم قال لأم كلثوم : " أشبعيها " ، ففعلت ، ثم أخرجت البرمة ، ووضعتها على الباب ، فقام عمر ، وأخذها ، ووضعها بين يدي الرجل ، فقال : " كل ، فإنك قد سهرت من الليل " ، ففعل ، فقال عمر لامرأته " اخرجي " ، وقال للرجل " إذا كان غدٌ فأتنا نأمر لك بما يصلحك " ، ففعل الرجل ذلك ، فأجازه وأعطاه .
هذه صورة أخرى من صور رحمته رضي الله عنه ، وصور حرصه على رعيته .
أم كلثوم ـ كما تروي الكتب ـ زوجة عمر تهادت مع ملكة الروم بالهدايا ، فكان ذلك مشاركةً منها لزوجها خليفة المسلمين ـ حين كان يتراسل مع ملك الروم هرقل ، في توطيد العلاقات الخارجية بين المسلمين والروم قال الإمام الطبري : ترك ملك الروم الغزو ، وكاتب عمر وقاربه ، وسأله عن كلمةٍ يجتمع فيها العلم كله ، فكتب إليه
(أحب للناس ما تحب لنفسك ، واكره لهم ما تكره لها ، تجتمع لك الحكمة كلها ، واعتبر الناس بما يليك تجتمع لك المعرفة كلها)) .
وكتب إليه ملك الروم ، وبعث إليه بقارورة ، أن املأ لي هذه القارورة من كل شيء ، فملأها عمر ماءً ، وكتب إليه : إن هذا كل شيء ، من الدليل :
( سورة الأنبياء : من آية " 30 " )
الآن ... بعثت أم كلثوم إلى ملكة الروم بطيبٍ وأحفاشٍ من أحفاش النساء ـ أوعية للطيب ـ وأرسلته مع البريد ، فلما وصل جاءت امرأة هرقل ، وجمعت نساءها وقالت : " هذه هدية امرأة ملك العرب ، وبنت نبيهم " ، ثم كاتبتها ، وكافأتها فأهدت إليها ، وكانت فيما أهدت إليها عقدٌ فاخر ، فلما انتهى به البريد إلى عمر ، أمر بإمساكه ، ودعا الصلاة جامعة فاجتمعوا ، فصلى بهم ركعتين وقال : "إنه لا خير في أمرٍ أُبرم عن غير شورى من أموري ، قولوا في هديةٍ أهدتها أم كلثوم لامرأة ملك الروم ، فأهدت لها امرأة الروم " .
فقال قائلون : " هو لها بالذي لها ، وليست امرأة الملك بذمةٍ فتصانع به ، ولا تحت يدك فتتقيك " .
وقال آخرون : " قد كنا نهدي الثياب لنستثيب ، ونبعث بها لتبتاع ، ولنصيب ثمناً " .
فقال عمر : " ولكن الرسول ـ أي مراسل البريد ـ رسول المسلمين والبريد بريدهم ، والمسلمون عظَّموها في صدورهم ـ أي لأم كلثوم ـ " فأمر بردها لبيت المال ، ورد عليها بقدر نفقتها .
أي أن هذه الهدية التي جاءت أم كلثوم من امرأة ملك الروم ردتها لبيت مال المسلمين ، أخذ الأحوط رضي الله عنه ، وهذا هو الورع ، فسرَّت أم كلثوم لصنيع عمر الذي لم يرضَ أن تسخَّر سلطة الخلافة لأمورٍ شخصية ، ما دام البريد بريد المسلمين ، والإرسال من قِبَل المسلمين ، فلابدَّ من أن ترد هذه الهدية لبيت مال المسلمين .
ولهذا الخليفة العظيم مواقف كثيرة ...
رأى مرة إبلاً ثمينة قال : " لمن هذه الإبل ؟ " ، قالوا : " إنها لابنك عبد الله " ، قال : " ايتوني به " ، فلما جاؤوا به سأله : " لمن هذه الإبل؟" ، قال : " هي لي ، اشتريتها بمالي ، وبعثت بها إلى المرعى لتسمن ، فماذا فعلت ؟ " ، قال عمر لابنه : " ويقول الناس : اسقوا هذه الإبل ، فهي لابن أمير المؤمنين ، ارعوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين ، وهكذا تسمن إبلك يا ابن أمير المؤمنين ، بع هذه الإبل ، وخذ رأس مالك ، ورد الباقي لبيت مال المسلمين " .
سيدنا عمر كان إذا أراد إنفاذ أمرٍ جمع أهله وخاصته ، وقال : "إني أمرت الناس بكذا ، ونهيت الناس عن كذا ، والناس كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا ، وايم الله لا أوتين بواحدٍ وقع فيما نهيت الناس عنه ، إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني" .
فصارت القرابة من عمر مصيبة ، أي إنسان يلوذ به إذا وقع فيما نهى عنه الناس تضاعف له العقوبة ، لقرابته من عمر ، فصارت القرابة من عمر مصيبة .
مرةً وضع له طعامٌ نفيس ، وضع له سنام الجزور أمامه فبكى ، وقال : "بئس الخليفة أنا إن أكلت أطيبها وأكل الناس كراديسها" .
أيها الإخوة ... لنا وقفةٌ أخرى مع هذه الصحابية الجليلة ، بنت علي بن أبي طالب ، بنت السيدة فاطمة ، بنت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونساء الصحابة قدوةٌ لنسائنا ، المرأة صنو الرجل في التكليف ، والتشريف ، والمسؤولية ، مكلفةٌ كما هو مكلَّف ، مشرفةٌ كما هو مشرف ، مسؤولةٌ كما هو مسؤول ، وأيَّة نظرةٍ كما أقول دائماً إلى المرأة غير هذه النظرة ، فهي نظرةٌ جاهلية لا تليق بالمسلم .
والإنسان حينما يعتني بأهله ، ويربيهم التربية الصحيحة ، يسعد بهم لأنهن يشاركنه في كل قضايا الحياة التي يعانيها .
أرجو الله سبحانه وتعالى أن يصلح نساءنا جميعاً ، وأن يتجهن إلى الله عز وجل الوجهة الصحيحة ، المرأة إذا عرفت ربها ، وعرفت حق زوجها ، وعرفت حق أولادها ، فهي امرأة لها من الأجر ما لا يوصف وما لا يقدر بثمن .
والحمد لله رب العالمين